بسم اللَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ، وعلى آله وصحابته الأطهار الأخيار .
وبعد :
فإنَّ إثباتَ صحةِ نسبةِ الكتبِ أو الأجزاءِ أو الرسائلِ إلى أصحابها لهو من أهمِّ أمورِ التحقيق بل هو أول شيءٍ يجب أن يُوضع في الاعتبار . وأتعجبُ كثيراً حينما أرى الكثرةَ الكثيرة ممن ينتسبون إلى التحقيق إذا أُُلقيَ إلى الواحد منهم بكتابٍ أو جزءٍ أو رسالةٍ سرعان ما يشرعُ في التعليق مع إهمال التحقيق بما فيه من إثباتِ النسبةِ للمصنفِ ، والاسمِ الصحيحِ ، ومنهجِِ المصنفِ فيه ، ووصف النُّسخِ الخطيَّةِ المعتمَدةِ في التحقيقِ .
وكان لهذا له دورٌ رئيسٌ في ظهورِ الكثيرِ من الكتبِ والرسائلِ والأجزاءِ والتي تُنسب لبعض المصنفين من باب الخطإِ ، وهم منها براء . ويستمرُ الكتابُ أو الجزءُ أو الرسالةُ قروناً طويلةً تتناوله الأيدي وهو ما يزال منسوباً لهذا المصنف حتى يأتي آخرٌ ممن أراد اللَّه به خيراً فيثبت عدمَ صحةِ هذه النسبةِ ، والطامَّةُ الكبرى أن الكتاب قد يصير اسماً بلا أب عند البعض ، وتستمر في الجهة الأخرى الأيدي العابثةُ ، والعقولُ الجانيةُ تتناوله بمزيدٍ من التحريف والتحريق لا الضبط والتحقيق . 
ومنذ عدَّة أشهر وقعت إليَّ رسالةٌ هامَّةٌ في أصول الفقه موسومة بـ " الإعلام بردِّ التعقُّبِ على الإمام " ، وهي منتشرةٌ على الشبكةِ العنكبوتيَّةِ ، والمقصود بالإمام الحافظُ جلال الدين بنِ السِّراج البُلْقَِينيِّ ، وعلى طُرَّتها أنها للإمام برهان الدين إبراهيم بن أبي شَرِيف .
فأخذتُ أتصفح فيها ، وأعجبتني فكرتُها . وقرَّرتُ في نفسي أن أحققها ، وقد كان . 
وعندما وصلت إلى آخرِ ورقةٍ فيها ، وفيها وجدتُ تاريخَ إنتهاءِ المصنفِ من تعليقها ، وهو سنة ثمانمائة وأربعة وأربعين من الهجرة 844هـ ، فتملكتني دهشةٌ وحيرةٌ ، وأخذتُ في نفسي أتساءل ، وأقول : هل هذا يُعقل : أن يفرغ المصنف من تعليقها في تلك السنة المذكورة ، وكانت وفاته في سنة 923هـ ، أي صنفها صاحبها قبل تسعة وسبعين سنة ، هذا قد لا يُستغرب منه في يعض الأحيان ؛ فهناك كثيرٌ من المصنفين ممن طالتْ أعمارُهُم عن هذا بكثير ، لكنْ طولُ هذه المدة مع هذا المصنف يُشعر بأنه كان قريناً للحافظ ابن حجر وغيرِهِ من أهل العلم في تلك الآونة ، ثم إنَّ أخاه الأكبرَ الكمالَ بنَ أبي شَرِيفٍ الحافظَ الشهيرَ ، صاحبَ التصانيفِ النافعةِ ، كان من طبقة أصحاب الحافظ .... سؤالاتٌ وردودٌ راودتني حتى تحوَّل ذلك إلى عزمٍ أكيد عندي على البحث في مدى صحةِ ثبوتِ هذه الرسالةِ إلى البرهان بن أبي شريف من عدمِه .
فشرعتُ في البحث عن طريق موضوع الرسالة " وهو الكلام عن مسألة الساكت " حيث لم أجد في ترجمة البرهان بن أبي شريف ذكراً لهذا الرسالة ولا ذكرها أحدٌ من مصنفي أسامي الكتب على كافة مناهجها إليه .
فلما بحثتُ ظهرتْ لي نتائجُ طيبة أكدتْ وجزمتْ يقيناً باجتماعها معاً بصحة ما كان ظنيًّا عندي ، وهو أن هذه الرسالةَ ليست للبرهان بن أبي شريف ، وإنما هي للبرهان إبراهيمَ بنِ عمرَ بن إبراهيمَ الحَمَويِّ السوبينيِّ الشافعيِّ ، الطرابُلُسيِّ المتوفَّى سنة 858هـ .
وأول هذه النتائج : 
ما ذكره الحافظُ العلمُ المحقِّقُ النحرير محمد بن عبد الرحمن السخاويُّ في ترجمة السوبينيِّ من كتابه الهامع " الضوء اللامع " [1 /100 ـ 101] ، قال :
وله تصانيفُ كثيرة منها مما كتبتُه : جزءٌ في مسائلَ تكون مستثناة من قاعدة لا ينسب لساكت قول ، قرضه شيخنا وغيره من الأئمة وتعقَّب أكثرها بهامش من نسختي شيخنا ابن خضر .
قلت : والناظرُ في تاريخ وفاة السوبيتي يجد أن الفارق بين تصنيف الرسالة وموته أربعةَ عشرة سنة 14 ، وهذا فارقٌ طبيعي ، ثم هذا يوافق كونه كان من أقران الحافظِ المعاصرين له ، فقرض الحافظُ رسالته ، وكذا ابن خضر قرينهما مع سمو منزلة الحافظ عليهما في العلم والفضل ، كذا بين وفاته ووفاة السخاويِّ 44 سنة ، فجديرٌ بهذا أن يترجمه السخاويُّ ؛ فإنه على شرطِهِ . على العكس من ابن أبي شريف حيث تأخرت وفاته عن السخاوي ( المتوفَّي سنة 902 ) إلى سنة 923 .
وثانيها : 
بالرجوعِ إلى ترجمةِ شيخِ السخاويِّ إبراهيمَ بنِ خِضْر بنِ أحمدَ بنِ عثمانَ بنِ كَرِيم الدين من " الضوء " [1 /46] وجدتُ أنَّ السخاويَّ قال : له حواشٍ على " جامع المختصراتِ " ، وعلى مسئلة الساكت للسوسنيِّ . انتهى . هكذا تحرَّف إلى السوسنيِّ في هذا الموضع ، والصواب مات أثبتناه .
وثالثها :
وجدتُ السخاويَّ ذكر في ترجمةِ قاسمِ بنِِ عبد الرحمن بن عمر بن رسلان بن نَصِير بن صالح ، الزينِ أبي العدل ابن الجلال أبي الفضل بن السراج أبي حفص البلقينيِّ الأصل القاهريِّ الشافعيِّ من " الضوء " [6 /183] ، قال : رد على السوبينيِّ في مسألة الساكت . انتهى .
قلت : وهذا من الطبيعيِّ أن يَرُدَّ الابنُ عن أبيه بعد وفاتِه حيث صنف السوبيتيُّ رسالته هذه بعد وفاة الجلال البلقينيِّ حيث ترحَّم عليه فيها ، وحيث كان السوبيتيُّ ألزم الوالد بأشياء وتعقبه .
وعلى الرغمِ من سُطُوعِ ووهجِ تلك النتائجِ وكشفِها لحقائقَ هامةٍ إلاَّ أنَّ الشَّكَّ ما زال يتملَّكني حتى وقفتُ على النتيجةِ الرابعةِ الدامغةِ التي تُزيل هذه الشكَّ وتُصَيِّرَهُ إلى يقينٍ ، وهي :
أنه قد وجدتُ على طُرَّةِ الكتابِ نسبةَ " السوبينيِّ " مكتوبةٌ لكن ضُرِبَ عليها بخطٍّ خفيفٍ ، والمتأملُ فيها يجد أنها قريبةٌ من نسبة " الشربيني " ، فاستغرب الناسخُ ـ وكان من طلبةِ العلمِ ، وقد كتبها لنفسه كما تبيَّن من كلامِهِ ـ أو غيرُهُ نسبة " الشربيني " فضرب عليها ، وكان مما ساعد على نسبتها للبرهان إبراهيم بن أبي شريف أنه اشترك مع السوبينيِّ في الكنية فكلاهما يكنى أبا إسحاق ، ثم في الاسم إبراهيم ، ثم في المذهب الشافعيِّ غيرَ أنَّ السوبينيَّ كان يأخذ أيضاً من مذهب أبي حنيفة فكان يُنسبُ أحياناً حنفيًّا ، وفي الوظيفة فكان كلاهما يعمل قاضياً .
هذا ما وفَّقني اللَّه إليه ، كنتُ قد وافقتُ الصواب فللَّهِ الحمدُ والمنَّةُ ، وإن كان غير ذلك فأسأل اللَّهَ أن يغفر لي زللي وجهلي ، فما أردتُ إلى الخير وأن يتغمدني برحمته ، ويدخلني في القومِ الصالحين .
ثم وجدتُ بعد كتابةِ هذه السطور بعامٍ أنَّ أحدَ الفضلاءِ قام بتحقيقِ الرسالةِ على تصويبِنا ، والحمدُ للَّه الذي بنعمتِهِ تتمُّ الصالحاتُ ...

وكان تاريخُ نشرِ هذا الموضوعِ : عام 1427 هـ .