تَحْقِيْقُ النُّصُوْصْ ، وَتَطْهِيْرُهَا مِنْ غَزْوِ اللُّصُوصْ
بِسْمِ اللَّهِ ، والصَّلاَةُ والسَّلامُ عَلَى رَسُوْلِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وبَعْدُ :
فَإِقَامَةُ النَّصِّ كَمَا هُوَ مُسلَّمٌ بِهِ عِنْدَ المُشْتَغلِيْنْ بِغَرَضِ الوُصَوْلِ إِلَى أَقْرَبِ نَصٍّ كَانَتْ عَلَيْهِ نُسْخَةُ المُصَنِّفِ النِّحْرِيرْ ، أَوْ تِلْكَ الَّتِي قُرِأَتْ عَلَيْهِ فَأَقَرَّهَا ، أَوِ تِلْكَ الَّتِي تَدَاوَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَأَقَرَّهَا أَصَحَابُهُ المُلاَزِمُونَ ، المَأْمُوْنُونْ ، أَوْ كَالَّتِي نُقِلَتْ عَنْ نُسْخَةِ عَالِمٍ عَارِفْ ، لاَ وَرَّاقٍ تَالِفْ ، وَالَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى المُثَابِرِ الجَلَدِ ، هُوَ مِنْ جَلَلِ الأُمُوْرِ الَّتِي لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً بَعْضُ مَنْ يَشْتَغِلُ بِتَحْقِيْقِ المَخْطُوْطَاتِ ؛ وَتَكُوْنُ النَّتِيْجَةُ أَنْ يَخْرُجَ النَّصُّ سَقِيْمًا ، عَقِيْمًا ، مُخَرَّقًا ، مُحَرَّقًا ، لا مُحَرَّرًا ، مُحقَّقًا ؛ ثُمَّ نَقُوْلُُ لَيْتَهُ مَا حَقَّقَهُ ، وَتَخْرُجُ الأَقْلاَمُ فَتُكْثِرُ فِيْهِ الجِرَاحَاتِ والهَنَاتِ والغَمْزَاتِ . 
فَلأَنَّ ذَلِكَ أَمَانَةٌ مَا أَثْقَلَ حِمْلِهَا ، وَأَوْعَرَ أَمْرِهَا ، وأَسْحَقَ غَوْرِهَا ؛ فَإِنَّهُ تُرَاثُ أُمَّةٍ ؛ وَالتُّرَاثُ هُوَ عِلْمُ عُلَمَائِهَا وَعُصَارَتُهُ ، وَحُشَاشَتُهُ ؛ صُنِّفَ مِنْ أَجْلِ بَيَانِ الدِّيْنِ وَتَوْضِيْحِهِ ؛ فَالعَابِثُ فِي ذَلِكَ ، عَابِثٌ بِالدِّيْنِ قَوْلاً وَاحِدًا . 
فَهَذَا بِصَنِيْعِهِ لَمْ يُقَدِّمْ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ خَدَمَاتٍ جَلِيْلاَتْ ، كَمَا يَظَنُّ هُوَ فِي قَرَارَةِ نَفْسِهِ أَوْ يَدَّعِي ، وَإنَّمَا قَدَّمَ لَهُمْ نَكَبَاتٍ وَطَامَّاتْ ، وَالْلَّهُ الوَاقِيُ وَالحَافِظُ لِدِيْنِهِ ، وُهَو الهَادِي لِمَنْ يَشَاءُ إِلَى سَوَاءِ الصِرَاطْ .
تَالْلَّهِ لَلأَمْرُ جِدُّ خَطِيْرٍ ؛فَلاَ يَسْتَهِيْنُ بِهِ إِلاَّ كُلّ غِرٍّ ، جَمَّاعٍ ، قَمَّاشٍ ، مَا يَسْلُكُ طَرِيْقَ المُحْسِنِيْنْ ، وَمَا عَرِفَ نَهْجَ العُدُولِ المَاضِيِّينْ ؛ فَفِي زَمَانِنَا قَدِ اخْتَلَطَ الغَثُّ بِالسَّمِيْنْ ، وَأَصْبَحَ لَهُ طَلَبٌ ، وَدَوْلَةٌ ، وَمُعِيْنْ ، لَكِنِ الْلَّهُ يِتَوَلَّى السَّرَائِرْ ، وَمَا تَرْمِي إِلَيْهِ الضَّمَائِرْ ، فَكُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوْبِقُهَا ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةِ إِلاَّ بِالْلَّهِ العَلِيِّ العَظِيْمِ .
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الجَاحِظُ فِي ‹‹ كِتَابِ الحَيَوَانِ ›› [1 /79] ـ أعزَّكُمُ اللَّهُ ، ورَفَعَ قَدْرَكُم ـ : ‹‹ لَرُبَّمَا أَرَادَ مُؤَلِفُ الكِتَابِ أَنْ يُصْلِحَ تَصْحِيْفًا أَوْ كَلِمَةً سَاقِطَةً ؛ فَيَكُوْنُ إِنْشَاءُ عَشْرِ وَرَقَاتٍ مِنْ حُرِّ اللَّفْظِ وَشَرِيْفِ المَعَانِي أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ إِتْمَامِ ذَلِكَ النَّقْصِ حَتَّى يَرُدَّهُ إِلَى مَوْضِعِهِ مِنْ اتْصَالِ الكَلاَمِ ›› . 
إِلَى أَنْ قَالَ : ‹‹ وَلاَ يَزَالُ الكِتَابُ تَتَدَاوَلُهُ الأَيْدِي الجَانِيَةُ ، وَالأَغْرَاضُ المُفْسِدَةُ ، حَتَّى يَصِيْرَ غَلَطاً صِرْفاً ، وَكَذِباً مُصَمَّتاً ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِكِتَابٍ تَتَعَاقَبُهُ المُتَرْجِمُونَ بِالإِفْسَادِ ، وَتَتَعَاوَرُهُ الخُطَّاطُ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ بِمِثْلِهِ ، كِتَابٍ مُتَقَادِمِ المِيْلاَدِ ، دُهْرِيِّ الصَّنْعَةِ ›› . انْتَهَى . 
وَيَنْطَبِقُ كَلاَمُهُ الأَخِيْرُ عَلَى العَابِثِ بِالنُّصُوصِ المُتَهَاتِرِ بِهَا . الَّذِي إِذَا تَعَقَّبْتَهُ ـ حَفِظَكَ الْلَّهُ ، وَأَيَّدَكَ ـ أَلْفَيْتَ مُؤَلَّفَهُ أَوْ مُحَقَّقَهُ مَا شَحَذَ فِيْهِ فِكْرًا ، وَمَا أَعْمَلَ فِيْهِ عَقْلاً ، مِثْلَمَا قَدْ يُعْمِلُهُ فِي التُرَّهَاتْ ، مِنْ خَوْضٍ فِي العُلَمَاءِ بِالتُّهَمِ وَالافْتِرَاءَاتْ ، وَلَمْ يَعْلَمِ المِسْكِيْنُ أَنَّ لُحُوَم العُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ تَفْتِكُ بِكُلَّ مَنْ أَرَادَ النَّيْلَ مِنْهَا فِي أَسْرَعِ اللَّحَظَاتْ . 
ومِنِ تَعَقُّبَاتٍ وَتَعَرُّضَاتْ ، وانْتِصَارَاتٍ لِلنُّفُوسِ ، وَإِرْهَاصَاتْ عَلَى الحَطِّ عَلَى الآخَرِيْنَ ( مِمَّنْ لَيْسُواْ فِي رُتْبَةِ العُلَمَاءْ ، وَلاَ مُعِيْنَ وَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ إِلاَّ رَبّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءْ ) بِالمُفْتَرَيَاتِ وَالمُخْتَرَعَاتْ الَّتِي يِتَفَنَّنُ أَعْظَمَ التَّفَنُّنِ فِي إِنشَائِهَا ، ثُمَّ يُعَفِّرُ بِهَا الصَّفَحَاتْ . وَمِنْ شِجَارٍ مَعَ نَاشِرٍ عَلَى بَيْعِ الغَرَرْ ، الكَائِنِ فِيْهِ الخَطَرُ كُلَّ الخَطَرْ الَّذِي يَأْبَاهُ العَقْلُ ، وَيَرْفُضُهُ النَّظَرُ...وَهَلُّمَ جَرَّا .
وتاللَّهِ لَدِقَّةُ التَّحْقِيْقِ لَهُ فَرْحَةٌ مَا أَعْسَلَهَا وَأَحْلاَهَا ؛ لأَنَّهَا سَتُحَقِّقُ الفَوْزَ العَظِيْمْ ؛ بِإِخْرَاجِ النَّصِّ فِي ثَوْبٍ كَرِيْمْ ، كَأَنْ لَوُ عُرِضَ عَلَى مُصَنِّفِهِ لَبَهَشَ لِذَلِكَ وَأَعْجَبَهُ ، وَقَالَ : ‹‹ سَلِيْمْ ›› ، يَعْنِي : ‹‹ قَرِيْبٌ مِمَّا صَنَّفْتُهُ ، أَوُ مِثْلُهُ ›› ، وَهَذَا عَلَى1 الفَرْضِ وَالتَّمْثِيْلْ ، لاَ الحَقِيْقَةِ وَالتَّجْسِيمْ ؛ فَإِنَّهُ مِمَّا يَسْتَحِيلْ ، واصْبِرُوْا أَيُّهَا المُدَقِّقُون ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ جَمِيْلْ .


مِنْ تَقْدُمَةِ تَحْقِيْقِي لِكِتَابِ ‹‹ الرُّبَاعِيِّ ›› ، وَهُوَ ‹‹ رُبَاعِيَّاتُ الصَّحَابِةِ ›› [ص/13 ـ 15] بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ .