بسم الله الرحمن الرحيم
"الجامع الصحيح" هو أصح كتاب بعد كتاب الله، وهو الوصف الذي أطلقته الأمة الإسلامية على كتاب البخاري ونعتته به منذ أُلِّفَ إلى الآن. وصدق من قال:
صحيح البُخاري لو أَنْصفوه ... لَمَا خُطَّ إلا بماءِ الذهبْ
هو الفَرْقُ بَيْنَ الهُدى والعَمَى ... هو السُّدُّ بين الفتى والعَطَبْ
أسانيدُ مِثْلُ نُجوم السَّماء ... أمامَ مُتُون كمثلِ الشُّهُب
بِهِ قام ميزانُ دينِ الرَّسُول ... ودانَ بِهِ العُجْم بعدَ العَرَبْ
حجابٌ من النَّارِ لا شكَّ فيه ... تَمَيَّزَ بَيْنَ الرِّضَى والغَضَبْ
وسِتْرٌ رقيقٌ إلى المُصْطفى ... ونَصٌ مبينٌ لكَشْفِ الرِّيبْ
فيا عالِمًا أجمعَ العالِمُون ... عَلَى فَضْلِ رُتْبَتِه في الرِّيَبْ
سَبَقْتَ الإئمةَ فيما جَمَعْتَ ... وفُزْتَ عَلَى رَغْمهم بالقَصَبْ
نَفَيْتَ الضَّعِيفَ مِنَ النَّاقِلِينَ ... ومَنْ كانَ مُتَّهَمًا بالكَذِبْ
وأَبْرَزْتَ في حُسْنِ تَرْتِيبه ... وتَبْوِيبِهِ عَجَبًا لِلعَجَبْ
فأَعْطَاكَ مَوْلاكَ ما تَشْتَهيه ... وأَجْزَلَ حظَّكَ فِيْمَا وَهَبْ
وخَصَّكَ في عُرصاتِ الجِنان ... بنِعَمٍ تدومُ ولا تَنْقَضِبْ
هو الفَرْقُ بَيْنَ الهُدى والعَمَى ... هو السُّدُّ بين الفتى والعَطَبْ
أسانيدُ مِثْلُ نُجوم السَّماء ... أمامَ مُتُون كمثلِ الشُّهُب
بِهِ قام ميزانُ دينِ الرَّسُول ... ودانَ بِهِ العُجْم بعدَ العَرَبْ
حجابٌ من النَّارِ لا شكَّ فيه ... تَمَيَّزَ بَيْنَ الرِّضَى والغَضَبْ
وسِتْرٌ رقيقٌ إلى المُصْطفى ... ونَصٌ مبينٌ لكَشْفِ الرِّيبْ
فيا عالِمًا أجمعَ العالِمُون ... عَلَى فَضْلِ رُتْبَتِه في الرِّيَبْ
سَبَقْتَ الإئمةَ فيما جَمَعْتَ ... وفُزْتَ عَلَى رَغْمهم بالقَصَبْ
نَفَيْتَ الضَّعِيفَ مِنَ النَّاقِلِينَ ... ومَنْ كانَ مُتَّهَمًا بالكَذِبْ
وأَبْرَزْتَ في حُسْنِ تَرْتِيبه ... وتَبْوِيبِهِ عَجَبًا لِلعَجَبْ
فأَعْطَاكَ مَوْلاكَ ما تَشْتَهيه ... وأَجْزَلَ حظَّكَ فِيْمَا وَهَبْ
وخَصَّكَ في عُرصاتِ الجِنان ... بنِعَمٍ تدومُ ولا تَنْقَضِبْ
وهو الأثر الباقي الخالِد للإمام البُّخارى الذي جَمَعَ فيه مِنَ السُّنَّةِ الصحيحة وخلَّدَها، بعد أن نقَّاها وصفَّاها مما علق بها من اخْتِلاق، فخلَّدَ به اسمه في العالمين، وقد سمَّى البُّخارى كتابَهُ:
(الجامِع الصَّحيح المُسْند مِنْ حديثِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وسُننه وأيامِهِ).
هكذا روى اسمه الحافظ ابن حجر في كتابه "هُدى الساري" وذكر الإمام العيني في "عمدة القاري" أن اسمه: "الجامِع المُسند الصحيح المختصر من أمورِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه" فالفرق بين الروايتين هو زيادة كلمة "المختصر" عند العيني.
ونظرا لطول هذا الاسم، وصعوبة الإستدلال به، والإشارة إليه عند الحاجة، والاستشهاد به كثيرًا، فقد دأب ذكره موجزًا مختصرًا على لسان الإمام البخاري نفسه وفي أقواله، فسماه مرة "الجامع الصحيح" كما ورد ذلك في حديثه عن الباعث على تأليفه قال:
كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: (لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح)، وسماه أيضًا (الجامع) كما جاء في قوله: (ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحيح حتى لا يطول) وسماه أيضًا صحيح البخاري كما روى ذلك عنه أبو علي الغساني.
وسماه "الصحيح" وفي ذلك يقول البخاري: ما وضعت في "الصحيح" حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين وهناك تسمية أخرى للكتاب حيث جعله شريكًا له في الشهرة باسمه بين الناس، حيث سماه "البخاري" وقد ورد ذلك على لسان البخاري في قوله، روى محمد بن أبي حاتم الورَّاق عن البخاري قال: (لو نشر بعض أستاري هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت البخاري ولا عرفوه).
الباعث على تأليفه
لعل البواعث الداعية إلى تأليف البخاري جامعه الصحيح كثيرة، ذكرها وأشار إليها هو نفسه، منها:
الحاجة إلى إفراد الحديث الصحيح بكتاب يختص به وينفرد دون بقية أنواع الحديث، لا سيما وأن الكتب المؤلفة في الحديث آنذاك، كانت ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين"كالموطأ" وغيرها.
ومنها دعوة رجل له وهو عند أستاذه وشيخه إسحاق بن راهويه، إلى جمع السنة الصحيحة كما روى إبراهيم بن معقل أنه سمع البخاري يقول: (كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال رجل لو جمعتم كتابًا مختصرًا للسنن، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب) وذلك لما رأى فيه من الأهلية والحفظ والإلمام بعلوم الحديث، وتوفقه في معرفة العلل والأسانيد).
ومنها رؤيا رأى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يذب عنه بمروحة في يده. يقول البخاري (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وأنا بين يديه أذب عنه بمروحة في يدي، فسألت بعض المعبرين في ذلك فقال لي: أنت تذب الكذب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -).
كيف ألف البخاري جامعه الصحيح؟
إن سعة اطلاع البخاري على علوم الحديث وفنونه، ومعرفته الواسعة بأحوال الرجال، وكثرة رحلاته طلبًا للحديث، وأخذًا عن الشيوخ، وقوة حافظته الخارقة، كل ذلك هيأه لإخراج الجامع الصحيح، وأعانه على تأليفه، كما أنه لم يكن متعجلًا متسرعًا في إخراجه وجمعه، بل اتخذ في تأليفه وتصنيفه أسلوبًا علميًا صحيحًا، ومنهجًا دقيقًا فريدًا، ويظهر ذلك كله في طريقة جمعه، ومدة تأليفه، وفي اختياره المكان المنالسب لتبييضه، وعدد المرات التي أعاد كتابته قبل أن يخرجه للناس، وفي الاستعداد الخاص عند الكتابة والتصنيف، روى السبكي في "الطبقات" قال: قال شيخنا أبو عبد الله الحافظ: أروي من وجهين ثابتين عن البخاري أنه قال:(أخرجت هذا الكتاب من نحو ستمائة ألف حديث، وصنفته في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله، وما أدخلت في الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لأجل الطول). فهو لم يخرج من الجامع كل ما روى وحفظ من الحديث، بل ما صح منه على شروطه.
واشتغل في تأليفه وتصنيفه وجمعه وترتيبه وتبييضه وتنقيحه، مدة بلغت ستة عشر عامًا، وهي تستغرق مدة رحلاته العلمية إلى الأقاليم والأقطار الإسلامية، بمعنى أنه كان يرحل لطلب الحديث، ثم يعود لإكمال ما بدأ من التصنيف، من محصول ما روي وما سمع، مما صح لديه وتجمع عنده من الحديث الصحيح، واتبع طريقة نموذجية في الإستعداد لتأليفه وجمعه، فكان يتهيأ لذلك بكيفية خاصة، حيث يغتسل ويصلي ويستخير الله قبل البدء في الكتابة.
روى ابن حجر عن البخاري قوله: ما كتبت في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين. وقد صنفه في المسجد الحرام، وجمع تراجمه بين قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنبره.
وقد ذهب الحافظ ابن حجر إلى جمع الروايات المختلفة حول مكان تأليفه، إلى القول بأن البخاري ابتدأ تصنيفه، ووضع تخطيطه العام في المسجد الحرام، ثم أكمله وبيضه في بخاري، بدليل طول مدة تأليفه، وهو ما لم يجاوزه البخاري بمكة.
وقد بلغ من حرص البخاري وعنايته بتصنيف "الجامع الصحيح"، أنه أعاد النظر فيه مرات، لكثرة ما تعهده بالتهذيب والتنقيح، قبل أن يخرجه للناس، ولذلك صنفه ثلاث مرات.
وهذا يؤكد حرص البخاري ودقته وتثبته في إخراج الجامع الذي هو أول كتاب في الصحيح، حتى يكون نموذجًا خالدًا لكتب الحديث، ومثالًا يحتذي به المحدثون من بعده، حتى اعتبر أمير المؤمنين في الحديث، ولم يكد يتم تصنيفه وتأليفه حتى عرضه على شيوخه وأساتذته ليعرف رأيهم فيه، منهم علي بن المديني، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث قال العقيلي: "القول فيها قول البخاري".
ولقد كانت عناية الإمام البخاري بمصنفاته كلها كبيرة، وروي عنه أنه قال: صنفت جميع كتبي ثلاث مرات، أي أنه ما زال ينقحها ويراجعها أكثر من مرة.
يتبع ....